خلل في سياق الموت

الشهيد لا يقول: “أموت فداءً للحقيقة، لأني مالكها”.

الشهيد، لا يملك الحقيقة ولا البابَ المفضي إلى الخلود. لا يحمل في جيب سترته صكَّ الدخول إلى الفردوس.

الشهيد، هو من ينظرُ إلى السماء مبتسماً ويصمتُ على ألم الزمن، لأنّ الصمت مهنة الأنقياء في الأرض؛ هو من يُدير ظهره للموت فيُطعَنُ غدراً.

لا.. لستم الشهداء.

لستم سوى ظِلال شهواتِ الخليلات، عبيدٌ لوهم الأسطورة لاهوتاً، وخانعون لخوف الأرض ناسوتاً، وأفرادٌ سجناء في هوامش الظلام.

لستم سوى غزوٍ فاشيٍّ لصورة الجمال، وقتلة عبثيون للحياء والحب والخوف الطبيعي في الإنسان.

لستم الشهداء.

الشهداء أفكار اللحظة، أزواج المدى.

هم من يتأنّقون صباحاً بالوقوف أمام قطرة ندى، فينعكسون حقيقة للحقيقة.

هم الجسد كاملاً دون نقصان.

هم الحالمون بالبلاد-الضحيّة.

الأحياء في الذكريات عندما ساروا على رصيفٍ باسمين.

المدخنون الشرهون في ليل لا ينتهي.

من يختلفون في معيار القهوة.

هم الذين يُصدّقون أنّ النثر بلاغة الأنبياء، وأنّ الشِعرَ وهم التاريخ، وأنّ السرو مسكن الغربان.

هم من يخفون الدمع في فيلم سينمائي، لأنّ المشهد يُهشّم الروح، ومن يغلقون الرواية في النهاية ويقشعرّون من فرط الصدمة، وينامون على سرير واحدٍ لأنّ الليل طويل.

الشهداء هم المتسكّعون فوق أرصفة مبللة بالأمطار، والمغنون بحناجر ليست غنائية، ينشِّزون فرحين كأطفال، ويلعنون بعضهم بعضاً.

هم الراقصون من عمق البلاهة والضحك الآثم، والناثرون الأحرف الغبيّة لأنّ فتياتٍ يحلمن بالقصائد غير المُقفّاة.

الشهداء هم الفاشلون في اصلاح صنابير المياه، والكارهون للوقوف على طوابير المدن المباعة، والضجرون من ترتيب الأمهات للمنازل.

هم المشاكسون مع الآباء، والمختلفون مع الأخوة الحمقى، وهم المنكسرون في الألوان.

الشهداء هم السكارى في الحانات، والثملون في الموسيقى، ولصوص الكتب من غرف الأصدقاء.

هم الخياليون في ابتكارات المشهد العاطفي، والشاردون في الغروب.

هم الراكضون نحو التلال لمشاهدة خسوف القمر، والعشّاق قرب الماء، والساهرون في غرف صغيرة بأثاث فقير.

الشهداء هم الضاحكون في الضباب، والأصدقاء اللامزون بودٍّ تفاصيل غراميات بعضهم، وهم المتشاجرون برؤاهم في المقدسات، والمتفقون على جمال المساء.

هم البسطاء برغباتهم دون خجل من أيديولوجيات الأخلاق، وهم المتنوّعون في حب الفاكهة، والطامحون بنوم خفيف بعد ليل طويل من الصخب.

هم المرتعشون بتجربة الجسد الأولى، والقبلة الأولى، واكتشاف الماء المتطاير من فيزيائهم المقدّس.

الشهداء هم من يُصدِرون أنيناً من الشوق المُثقل للهدوء، وهم الفكاهيون في الحافلة المتجهة صوب البراري، وهم الحزانى في جنازات الآباء لأنّ الحياة غير خالدة.

الشهداء هم الخطاؤون في الحقيقة، هم الأحياء في يومهم فرادى، والشاتمون عقائدكم كلما تأملوا خرائهم.

الشهداء.. نحن قبل كل هذا الخراب.