سلسلة سردية متنوّعة في المحنة واللعنة
في الربع الأخير، وفي اللقطة ما قبل الأخيرة من فيلم «لِمَ لا: سلسلة في الإيكولوجيا الأخروية Why Not, A Serenade of Eschatological Ecology» للياباني «شوساكو أراكاوا Shusaku Arakawa» يعرض المخرج تفصيلاً أدائياً حول العلاقة الجنسية بين الجسد الأنثوي وبين عجلة دراجة هوائية تتمركز تدريجياً بين فخذين، وهي تدور، وتصل بالفتاة إلى مستوى من الانتشاء.
هذا المشهد – بغضّ النظر عن الفيلم ككل، باعتباره يندرج في بُعد فلسفي تجريبي ذو امتدادات نفسية في تحديد هوية الكائن وعلاقته مع المادة الحيّة، إلا أنه يعمل في حقل من فكرة الأيروتيك المضاد، إنه عملياً صورة عن الجنس البارد – يحقق صورة متينة ومتداولة سلوكياً في الوعي البشري المعاصر حول الصياغات الجنسية التجريبية والمختلفة ومناسبة لصورة العصر الرقمي نوعاً ما، إنها صورة خاضعة لفكرة الابتعاد الكائني واستبدالها بكيانات غير فاعلة إنسانياً.
في بداية القرن الماضي مع ظهور المدارس الفنية وبالأخص السريالية، بدأت صورة مغايرة تجتاح العالم في ذلك الوقت، ممزوجة مع تبدّل مفهوم الإيكولوجيا وتحولاته إلى مستوى آخر من البيئة، فلم يعد العالم يقوم على عناصر تواصلية بين الغرائز والطبيعة، لأنّ مفهوم الطبيعة أصبح متحولاً، ويمكن إيجازها كصورة بالمعنى الإسمنتي، علاقة الغريزة مع الجامد.
في لقطة الفيلم التي استمرت بشكل انتشاء دون قطع حوالي 15 دقيقة، لقطة واحدة، كانت الإثارة الجنسية تنبع من فكرة الاحتكاك دون حس إنساني تبادلي، إنها تقزيم لفكرة الشهوة وتحويلها إلى السرعة الخاضعة للانتهاء والذهاب للقيام بشيء آخر كتفاعل الذات مع الجامد.
اللقطة تُعبّر عن تحويل مفهوم الإيكولوجيا كنظام طبيعي إلى جزء من فكرة البرود الحسّي والشعوري باختلاق أي ملامسة فيزيائية في مناطق الاستثارة، وهو ما يحفّز التخيّل البشري إلى اندماج كلي في العلاقة مع المادة الجامدة.
لقطة الفيلم تُثير في عمقها سؤالاً جوهرياً، هل يمكن للمُشاهِد أن يشعر بأي رغبة جنسية تخيّلية أو جسدية أثناء مشاهدة لحظة انتشاء جسد الأنثى بعجلة دراجة هوائية!.
قد يبدو الأمر غير مهم في مستواه الفني، لكنه مهم في مستوى التحريف الإيكولوجي لوعي الإنسان مع محيطه وممارسته الفعلية له.
حالة الشعور بالاستثارة هي قطعاً تدور في حلقة الانتماء للمُنحَرَف البيئي والغريزي لفكرة الإنسان وقوامه الاستمراري، لأنه يعمل تماماً في منطقة الجنس البارد مع المادة الميتة، ومع ذلك تستطيع التوصّل لكسر مفهوم الأنسنة الحسيّة والشعورية وخلق البديل الإسمنتي في مادة غير ناطقة وغير فاعلة تواصلياً وبصرياً ولفظياً أو حتى كرائحة، إنها فقط مادة تثير بيولوجياً الكيان بصورة شبِقة، إنها عجلة، مثل كل شيء آخر، مادي وميت وجودياً.
هنا لا يوجد اتهام للتحوّل البشري في وعيه من الاستمرار الطبيعي لمفهوم الجنس إلى الاستثارة الجامدة للمادة، لأنه تحوّل بطبيعة الحال خاضع لنظم كبرى في مستويات الاقتصاد والمجتمع و الإنتاج والرأسمال نفسه، فالإنسان غير مُلام لمثل هكذا تحولات إن شعرَ بالإستثارة للحظة أثناء المشاهدة، لكنه يُلام عندما يُبرِّر شعوره الانتشائي باعتباره الصورة المتينة والصحيحة لفكرة وجوده.
مع ذلك فالفكرة ليست عن الشعور البشري بالانتشاء الجامد، بل عن أهمية لقطة الفيلم عن التأثير العميق للتحولات البيئية في الوعي الإنساني، وهو أيضاً يرتبط بصورة الفن الحديث الذي نتج عن السريالية التي أمعنت في تفسير صورة الجنس الغامض من خلال العلاقة مع المحيط المادي والبيئي القائم.
أعتقد بأنها لقطة ليست فقط مثيرة للاهتمام بل هي تفسير جيد جداً لواحدة من تحولات الوعي الإنساني المعاصر فنياً ووجودياً.